في ذكرى الاستقلال: الأحقاد أشد من "الحتحات"

رمضان عبدالسلام
مشاركة المقال
في نهاية الأربعينيات الماضية، كان ما فات العائق الأشد و الأقسى أمام الذين التقوا حول الأمير ادريس السنوسي ليختاروه مقدماً عليهم يقودهم لإقامة ليبيا. كان ما فات كله ثارات بعثها بين الليبيين المحتلان التركي و الإيطالي على مدى خمسةِ قرونٍ تقريبا لضرب بعضهم ببعض؛ حتى جعلا محاولات الليبيين للتحرر منهما تنتهي بتعزيز احتلالهما و ليس بهزيمته. كانت طريقة الأمير السنوسي و الملك فيما بعد لا سبيل غيرها في أي ظرف انقسمت فيه أي جماعة على نفسها و تقاتلت بعد ذلك ؛ فقد بعثت الآمال و بعثت دولة من العدم غير أن المخاطبين بها قد احتفظوا بما "فات" في أذهانهم كما بدا بعد ذلك و لم يكن "الحتحات" كافياً لتغطية...لقد ثبت أنه حتى اطنانا من الخرسانة و ليس شيئا من الحثى تكفي لردم مافات .. الليبيون لا ينسون. الليبيون يدسون. الدس من الغرائز التي لا تقهرها غير الحكمة و الحلم. بعد استقلالها بثمانية عشر عاماً قامت الجمهورية في ليبيا ، على ذات القاعدة تقريبا. نسيان الأحقاد و دفنها. غير أنه بعد أربعين عاماً من قيامها انبعث بين الليبيين ما كان منسياً ادعاءً. كانت الأحقاد كوريثة النار في الرماد. ما أن نفث فيها هنري برنار ليفي حتى علا سناها. شوّه الليبيون أنفسهم ، و أساوا إلى ماضيهم. لوّثوا كل رموزهم القديمة و الجديدة و وظفوها في أحقادهم. نبشوا مافات و تذكروا ما ادعوا أنهم نسوه. لا يمكن أن يكون الذين تحلقوا حول الأمير إدريس السنوسي في واقعة الحتحات قد أخلّوا بوعدهم. لقد كانوا في مستوى نفوسهم الكبيرة دون شك و كذلك الذين كانوا حوله بعد ذلك: في مناسبة إحياء ذكرى يوم الإجلاء في ليبيا أقيمت في راس لانوف عام 1979؛ استضاف الراحل المرحوم معمر القذافي قيادات المملكة الليبية في بيت المرحوم ابوبكر لمقريف والد الشهيد إمحمد الذي كان حريصا على زيارته دوريا كلما انتقل بين غرب و شرق ليبيا .. بين الحاضرين كان المرحوم معمر القذافي يجول مُسلِّماً و سائلا عن حاجتهم. عندما وصل إلى المرحوم احسين مازق رئيس وزراء المملكة الليبية الأسبق سأله مخاطبا: "بالك تبي شيء يا عمي احسين". أجاب حالا : "هذي اللي انريدها؛ و الباقي هناك و راحتك".. حصر المرحوم احسين مازق حاجته في قدره فاكتفى بعبارة يا عمي أحسين من مخاطبة سدّاً لحاجته… أي نفس كبيرة هذه؛ و اي كريم هذا؟ في ذكرى قيام دولتهم يحتاج الليبيون إلى العفو و ليس التناسي. التناسي فعل سهل، يستطيع القيام به أي كان ، لكن الأصعب منه هو العفو ؛ و هو أفيد إذا كان عفواً صادقاً و ليس خادعاً .. عفو يترتب عليه اندماج الناس بالمصاهرة و بالمشاركة في الأعمال و الأقوال و ليس عفوا مبنيا على الخداع . أخشى ان أقول أنه ليس بين الليبيين اليوم ممن بيدهم "الحل و العقد" مغالبة أو صدفة ؛ حكيم أو حليم بمستوى تلك النفوس الكبيرة ؛ و أخشى أن أقول أيضا أن الليبيين اعداءٌ بما يكفي ليدمروا كيانا بحجم ليبيا ، و قد فعلوا ، و أخشى أن أقول أنه لا حل لحقد الليبيين على بعضهم إلا أن يعيدوا تقسيم بلادهم إلى أكثر من الثلاث التي كانت قائمة قبل اندماجها حتى يجتمعوا على طهارة أو يفترقوا إلى الأبد ..